تاريخ مفهوم الجهاد.. أرضية خصبة لبذور الإرهاب والعنف
كتب | هاني مسهور
الجهاد مفهوم مركزي في التجربة التوحيدية الإسلامية، غير أنّ تاريخية المصطلح تبرز كم التأويل والانزياح الذي مارسه العقل الفقهي والعقل السياسي على هذا المفهوم، فالجهاد عند أغلب الإسلاميين هو عنف بشري تدثر بالمشروعية الدينية والتنزيل القرآني الكريم، والجهاد هو قتال، غير أنّ النص القرآني الكريم في بداية تشريعه للحرب لم يستعمل مصطلح الجهاد، بل حضر فعل القتال، والآية الكريمة كانت صريحة في الإذن بالقتال “أذن للذين يُقاتلون بأنهم ظُلموا وأن الله على نصرهم لقدير”.
ويبدو أن النص القرآني كان على وعي بأن فعل القتل والقتال هو فعل استثنائي، فكان عليه أن يتمايز في الفعل والمصطلح والمرجعية، وقد تساوت استعمالات القرآن الكريم لمفردتي جاهد وقتل (25 مرة)، لكن الفارق أن كلمة “جاهد” و”جهاد” لا توحي مباشرة بالفعل الحربي العنيف، بل توحي في أغلبها بالفعل المرتد نحو الذات ولا علاقة له بالآخر في معنى الجهد الذاتي للانسجام مع الدعوة الإسلامية والتضحية لأجلها.
لم تمارس جماعات الإسلام السياسي من النقد الذاتي ومن المراجعات ما يجعلها تتصالح مع مفهوم الدولة المدنية. بعد غياب النبي محمد، بتمام التأسيس العقائدي ودخول التدين الإسلامي مرحلة التأسيس الجغرافي والسياسي بداية من القتال في حروب الردة سيتماهى فعل الجهاد مع فعل القتال، وقد كان المسلمون الأوائل بحاجة للحديث عن الممارسة الحربية ضمن السياق المقدس لفعل الجهاد وما يحمله الفعل من دلالة قدسية في تحقيق المشروعية الدينية، ومن ثم قامت الدولة/الدول الإسلامية على الفتح والقتال تحت راية الجهاد في سبيل الله.
ومنح العقل الفقهي التاريخي المسلمين مسنودا بالمدونات التاريخية والإخبارية شروط تحقيق حاكمية الله تعالى في الأرض على العنف الذي تسلطه الجماعة المسلمة/المؤمنة على الآخر من أجل الطاعة والإكراه السلطوي المتذرع المقدس وفقا لمفهومهم.
ولعل الجماعات الجهادية المعاصرة قد رفعت الحرج عن جماعات الإسلام السياسي في تصورها المرتبك لمفهوم الجهاد القائم على أن الجهاد هو عنف مشروع ومقدس يفرضه الدين على الذات البشرية لتحقيق إرادة الله في حكم البشرية، والخلاصة أن خروج المفهوم عن تاريخيته جعل التناقض شاسعا بين الحاضر والسلف.
ولكن القول بتاريخية المفهوم قد يوقعنا في مأزق التبرير للجماعات الإرهابية التي تتخذ من واقع المسلمين المعاصر حجة لتنزيل هذا المفهوم في الراهن واستخدامه لمحاربة “الغزاة” أو “الكفار”.
ويبدو مفهوم التاريخية أكثر تعقيدا لدى العقل الجهادي والإسلامي، ذاك العقل الذي يرى التاريخ ماء واحدا يرفض التطور الزمني والاختلافات المرجعية في ما هي بين الحاضر والماضي، وفكرة السلفية لا تتعلق بالحركات السلفية وحدها، ولكن كل عقل يبحث في الماضي عن تجربة يراها نموذجية ليستعيدها تكرارا على أنها صالحة للحاضر هو عقل سلفي بامتياز، فحتى التجارب الدينية كانت ثورة على فكرة الآباء وتقديس معتقداتهم؛ فالإسلام الحركي بشقّيه؛ السياسي والجهادي، يمتلك فكرا خاملا غير خلاق؛ لأنه يتكئ على الماضي ليعيد استنساخه. يريدون استنساخ تجربة الجهاد لواقعنا المعاصر غير مكترثين بالشروط المرجعية لواقعنا. قتال الدين في الماضي له شروطه، وحروب اليوم لها شروطها المعاصرة في تحرير الأرض وتحقيق المصالح الاقتصادية والسياسية، وعليه فإنّ تفعيل المرجعية الدينية التاريخية في العنف يجعل العنف وفقا لمفهومهم مقدسا لجماعة تعتقد أنها تمتلك الحقيقة المطلقة من عند الله، وبالتالي محاربة كل البشرية التي تعتقد أنها على الجاهلية مطلقا.
ومنذ القرن الماضي حين فشل ما عرف بمشروع الإسلام العالمي مع نخبة المصلحين ذوي التكوين الفلسفي العميق، فُتح المجال لبروز الإسلام العامي مع نخبة من الإسلاميين الحركيين ذوي التكوين العقائدي الكلاسيكي، ومنذ القرن الماضي بدأ التحول من جهاد القلم إلى جهاد السيف، أو من الاجتهاد إلى الجهاد، فقد عاد المفهوم زمن الاستعمار والتبعية في سياق التنوير الفكري والتحرير للأراضي، لكن في سياق الدولة الوطنية كان وسيلة لتحقيق حلم بعيد هو الخلافة الإسلامية، بل وكشفت الحركات الإسلامية عن براغماتية في توظيف ما أسموه الجهاد المقدس من أجل إزاحة الخصوم وبلوغ سدة الحكم والسيطرة على مفاصل الدولة. لن تجد الحركات الجهادية التي تكفر بالممارسة الديمقراطية من وسيلة للإقناع غير الإخضاع بما يطلقون عليه العنف المقدس.
فمن الشجاعة القول إن هذه الممارسات للجماعات الجهادية لها جذور في تاريخنا، فالحرق والتحريق والتمثيل بالجثث والخطف والاحتطاب مورست منذ عهود قديمة، ولذلك يرون ممارساتهم اليوم بكل ما فيها من وحشية مصدر فخر وترهيب للأعداء وأنها من صلب الفعل الجهادي، وبالتالي فتلك هي حقيقتهم بأسانيدهم وأدبياتهم المرجعية، وهي ممارسات تعلن عن أهدافها الحقيقية في تدمير كل ما بنته الحداثة وجعلتهم يعيشون غربة عن الدولة الحلم. ولقد كان لهم في تجاربهم، شرقا وغربا، من الإمارة إلى الدولة ذاك الطموح المنشود، ولذلك سيكونون أكثر وحشية في المستقبل لأن الخيبة لم تصبهم وهم يرون الحلم يتحقق في قيام دولتهم عام 2014، ويرونها معركة خاسرة دون أن يخسروا حربهم الأزلية. لعل أدبياتهم تمنحهم رؤية شاملة عجزت الدراسات الحديثة عن تفكيك رموزها لمقاومتها من الداخل العقائدي والفكري والإستراتيجي.
وفي التقاطع بين الإسلام السياسي والإسلام الجهادي، يمكن أن نفترض أنّ الإسلام الجهادي هو ثمرة فعلية لجماعات الإسلام السياسي عند توفر شرطين: إما من خلال الضغط على الإسلام السياسي، وإما فشل جماعات الإسلام السياسي في ممارسة الحكم.
منذ القرن الماضي بدأ التحول من جهاد القلم إلى جهاد السيف، أو من الاجتهاد إلى الجهاد فكلما تعرضت جماعات الإسلام السياسي لإكراهات واقع الدولة الوطنية والضغوط الإقليمية والدولية، تحول سريعا إلى ممارسة ما كان قد “أعد لهم”، ومهما حاولت جماعات الإسلام السياسي التنكر لإفرازاته فهو لا يمكن أن ينكر أنّ زعامات الحركات الجهادية تربت ونشأت على الأدبيات الإخوانية من سيد قطب إلى عبدالله عزام إلى أبي مصعب السوري.. فالحركات الجهادية كانت ثمرة ثلاثة روافد أساسية: الرافد القطبي والرافد الوهابي والرافد المودودي، ونحن نعرف بالنصوص علاقتهم بمختلف حركات الإسلام السياسي.
بعد الثورة التونسية قدمت حركة النهضة نفسها حزبا سياسيا يناهض العنف، لكن ما ظهر منها صمتا وعونا لروابط حماية الثورة كان تواصلا لبعض أنواع الاستعراض، ولعل حركة النهضة تبقى النموذج الأكثر انكشافا من ناحية الدراسة والتحليل، فجماعات الإسلام السياسي قد مارست من النقد الذاتي ومن المراجعات ما يجعلها تتصالح مع مفهوم الدولة المدنية، ولا يمكن رمي كل الحركات في خانة واحدة، ولكن يمكن أن نعطي ثلاثة أمثلة: المثال المصري الأكثر تعقيدا، فهو مازال يعيش شرط البيعة، من قبيل ما عاناه الرئيس المخلوع محمد مرسي في الولاء للمرشد أو الدستور.
المثال المغربي معقد من حيث الولاء للقصر وأمير المؤمنين. أما المثال التونسي فإن حركة النهضة واقعة تحت ضغط المجتمع المدني الذي أرغمها على التنازل لصالح الدولة المدنية ولعبة الديمقراطية، فمن خلال هذه الأمثلة ندرك أن تصالح الإسلام السياسي مع الدولة المدنية والديمقراطية لا يكون إلا تحت الإكراه والضغط.. وغياب الضغط سيجعل هذه الحركات وفية لأدبياتها الكلاسيكية المركزية لنشوء جماعة الإخوان المسلمين.