تقرير يرصد دور السلطة القضائية في الملفات الساخنة بعدن.. ملف الأراضي نموذجاً

تقرير يرصد دور السلطة القضائية في الملفات الساخنة بعدن.. ملف الأراضي نموذجاً

نهب الأراضي بعدن.. كيف مر من (نافذة) السلطة القضائية؟

لماذا تفجر الخلاف بين الجمعيات السكنية لموظفي الدولة وهيئة الأراضي؟

كيف تعاملت السلطة القضائية مع ملاك الأراضي من السكان الأصليين بعدن؟

ما الذي حدث في الجمعية السكنية لمنتسبي السلطة القضائية؟

لماذا وجه المحافظ لملس قائد قوات الدعم والإسناد بضبط رئيس إحدى الجمعيات ووقف نشاطها؟

القضاء.. هل سقط الجدار الأخير؟

تقرير / خاص:

يعد ملف الأراضي بعدن من أبرز ملفات الفساد الذي شهد صراعا داميا راح ضحيته عشرات القتلى والجرحى منذ بداية استحواذ من يوصفون بأنهم نافذون في السلطة- عقب الحرب الأهلية بين شطري اليمن عام 1994- على مساحات شاسعة شكلت مصدر ثراء للكثير منهم.
ووفقا لدراسات ميدانية سابقة أعدتها منظمات محلية بالتعاون مع مؤسسات حكومية فإن ملف الأراضي بعدن يعد أحد الأسباب الرئيسة في احتقان الوضع السياسي بالجنوب.
وخلصت تلك الدراسات إلى أن ملف الأراضي في المحافظات الجنوبية، وعدن تحديداً، أصبح مشكلة سياسية واجتماعية واقتصادية خطيرة للغاية تهدد الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي.

فساد الأراضي في عدن
كشف تقرير صادر عن الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، نشاطاً ملحوظاً للوبي الفساد المحكم سيطرته على أراضي عدن، حيث أثبت التقرير تلاعباً بعقود الأراضي وإيراداتها، وإخفاء العشرات منها.
وتحدث التقرير عن تجاوزاتٍ حدثت خلال الفترة من 2014 حتى منتصف 2018، وأثبت وقائع فساد في تعديل مخططاتٍ وصرف عقودٍ مزورة، وتدخل نافذين في عملية تمكين لوبي الأراضي من نهب مساحات واسعة في عدن، راح ضحيتها آلاف المستفيدين ممن يملكون عقوداً رسمية منذ العام 1991، بالإضافة إلى تزوير عقود أراضٍ مملوكة لمواطنين.
وخلص التقرير إلى وجود تعديلات على مخططات، تمت بإشراف قيادات في السلطة المحلية لعدن، واستنادا الى أحكام قضائية من قبل بعض القضاة والموظفين في السلك القضائي؛ بغرض تمكين مدعي الملكية والناهبين من مساحات واسعة من الأراضي.
وحصلت أكثر التجاوزات في الأراضي بمناطق جبل حديد ومديريتي البريقة ودار سعد.

أين دور القضاء؟
إذن، كل هذه المشاكل، وكل هذا الإضرار بمصالح الناس، وفي عدن تحديداً، مع كل هذه الفوضى والعبث الذي يوشك أن يسقط المدينة في بئر سحيقة من ظلمات بعضها فوق بعض، يبرز سؤال كبير هنا: أين دور السلطة القضائية في البلاد مما يجري، وهل هي موجودة وحاضرة في هذا المشهد المعقد؟.
ثم إذا كانت السلطة القضائية موجودة (شكلاً)، ولكنها غير حاضرة بقوة في هذا الشأن الكبير، فهنا يكبر السؤال: لماذا هي عاجزة؟.
لكن، إذا كانت هذه السلطة موجودة وحاضرة وسط كل هذا الظلم والظلمات، وليست عاجزة إلى ذلك الحد، لكنها جزء من المشكلة، وجزء كبير منها، وليست جزءا من الحل، هنا تسقط كل الأسئلة، وندرك حجم المصيبة التي أصابت هذه البلاد وهذه المدينة تحديداً!.
فعلى من يعول الناس إذا لم يجدوا الحل والعدل والإنصاف عند تلك السلطة، التي يعدونها ملجأهم وحصنهم الحصين، والجدار الأخير الذي يحول بينهم وبين الهاوية؟!.

“توجه” لإنشاء محاكم متخصصة
وزير العدل بحكومة تصريف الأعمال كان قد صرح لوسائل الإعلام المختلفة عما وصفه بأنه “توجه حكومي” لإنشاء محاكم متخصصة بقضايا الأراضي في عدد من المحافظات.
وقال الوزير علي هيثم الغريب، إن وزارته بصدد رفع مقترحات إلى مجلس القضاء الأعلى بشأن إنشاء محاكم متخصصة تحديداً بقضايا الأراضي في محافظات عدن وحضرموت ومأرب، للإسراع في تلك القضايا “التي تحتاج إلى مهنية عالية”.
حقوقيون وناشطون علقوا على تصريح الوزير، قائلين: “بعد عقود من عجاف النهب والسلب والاستيلاء والتجريف لأراضي الدولة وأراضي السكان الأصليين بعدن، وعقب انحسار جيل كامل من البشر، وسط الفوضى اللا خلاقة، لاتزال وزارة (العدل) في حكومة (الشرعية) تفكر بـ”التوجه” لإنشاء محاكم متخصصة بقضايا الأراضي!. أي عدل بائس هذا، وأي شرعية كسيحة هذه؟!”.
في السياق أيضا، كان رئيس محكمة استئناف عدن، القاضي فهيم عبدالله محسن، قد كشف عن مصيبة أخرى من مصائب هذه “السلطة العرجاء”، كما يصفها البعض، حين أكد أن “القضاء ليس له استقلالية، والسلطة التنفيذية مهيمنة عليه”.
وقال في لقاء له مع إحدى وسائل الإعلام: “القضاء يجب أن يكون له الاستقلالية الحقيقية، وفقا لنص المادة 149 من دستور الجمهورية اليمنية، وهذا للأسف مجرد قول، فهيمنة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية محل تجريح من أبسط موظفي السلطة التنفيذية”.
غير بعيد من ذلك، ما أقره عدد من القضاة أنفسهم ومن موظفي السلك القضائي في أكثر من مناسبة، وفي العديد من وسائل الإعلام المختلفة، عن هيمنة الفساد على الأجهزة القضائية المختلفة.
ومن ذلك ما نراه، على سبيل المثال، في الشكاوى المتكررة والمناشدات العاجلة للجهات العليا بالدولة ممثلة برئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية، من قبل العديد من القضاة فيما يتعلق بالفساد في السلك القضائي، وكيف أنه يوشك أن يصل إلى مرحلة من التغول بحيث تصعب محاربته أو حتى الوقوف بوجهه، ناهيك عن التغلب عليه.
فهذا نادي قضاة اليمن، في بيان أصدره قبل حين، يطالب بإقالة مجلس القضاء الأعلى.
ويؤكد في بيانه أن “مجلس القضاء الأعلى لا يخدم سوى أجندات ورؤى ضيقة لا تمثل الشرعية الدستورية والقانونية في شيء”.
ويطالب قضاة اليمن، في بيانهم، رئيس الجمهورية ومجلس النواب “بالتدخل العاجل، وتشكيل لجنة للتحقيق في مسار أعمال مجلس القضاء الأعلى، وتفعيل الإجراءات القانونية حيال المتورطين بالفساد في المجلس”.
حتى ينتهي بيانهم إلى المطالبة بـ”إقالة مجلس القضاء الأعلى وتعيين آخر من القضاة المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة”.
كذلك، ما أثاره عضو النيابة الابتدائية بمديرية التواهي في محافظة عدن القاضي أنيس صالح جمعان، والذي اتهم أيضا مجلس القضاء الأعلى بـ”الفساد والاستمرار في ظلم القضاة”.
وساق اتهاماته لمجلس القضاء، أيضا، برسالة رفعها إلى رئيس الجمهورية، مبينا فيها التجاوزات والمخالفات الجسيمة للمجلس بحق القضاة ومنتسبي السلطة القضائية.
وأشار القاضي جمعان في رسالته للرئيس إلى “فساد مالي كبير متورط فيه النائب العام ورئيس مجلس القضاء الأعلى”.
كما تحدث عن “وثيقة تكشف توجيه أحد القضاة خطاباً لرئيس الجمهورية وقادة قوات التحالف العربي ورؤساء الاستخبارات العامة في السعودية والإمارات، موضوعها عدم إصدار قرارات ببطلان كل الأحكام والقرارات الصادرة من المحكمة العليا والاستئنافية والابتدائية الخاصة بالحوثيين، الصادرة بحق المواطنين أو الموظفين أو القضاة من قبل رئيس مجلس القضاء الأعلى والنائب العام ورئيس المحكمة العليا”.
وطالب بالتحقيق في “الوقائع الخطيرة، المنسوبة من قبل (ذلك القاضي)، والذي بحوزته أدلتها، إلى رئيس مجلس القضاء الأعلى والنائب العام ورئيس المحكمة العليا بارتكابهم جرائم بالاستيلاء على المال العام… وإرسالهم أموالا للقضاة الموالين للحوثيين، ومن ضمنهم القاضي الذي أصدر حكماً بإعدام الرئيس الشرعي عبدربه منصور هادي”!.
وغير ذلك الكثير مما نجده ونتابعه يوميا في وسائل الإعلام المختلفة ووسائط التواصل الاجتماعي. وعليه، يكون قد شهد شهود من أهل هذه “السلطة البائسة”، حد توصيف البعض، بغيض من فيض ما يجري في دهاليزها وسراديبها المظلمة!.

ملف الأراضي بعدن
في تطور لافت بشأن ملف نهب الأراضي، وجه محافظ عدن أحمد حامد لملس مؤخراً قائد قوات الدعم والإسناد بضبط رئيس جمعية أسر الشهداء ومناضلي الثورة اليمنية، عبدالرب العسيري، وحماية أراضي الدولة من الاعتداءات وعدم السماح بـ”المتاجرة بالشهداء”.
ويأتي توجيه المحافظ لملس تعقيبا على مذكرة هيئة الأراضي بضبط العسيري لانتحاله صلاحية هيئة أراضي الدولة من حيث إعداد المخططات وصرف العقود. وسبق أن وجهت نيابة الأموال العامة مذكرة للعسيري في ٣ ديسمبر الجاري، للالتزام بعدم توزيع عقود أراض في مخططات الدولة، وتحميله مسؤولية مخالفة ذلك.
وأكدت الهيئة العامة للأراضي في مذكرة رسمية سابقة أن الجمعية “الوهمية” التي يقودها العسيري لم تصرف لها عقود رسمية من قبلها, كون الأراضي ملكا للدولة، ومعظمها صرفت لمواطنين منذ ٣ عقود وأصبحت مدنا قائمة على أرض الواقع.

الجمعيات السكنية.. ما الذي حدث؟
يحيلنا هذا الأمر مباشرة إلى قضية أخرى من القضايا المرتبطة بالأراضي، وهي قضية الجمعيات السكنية لموظفي الدولة.
وهي من أبرز القضايا التي شغلت الرأي العام في المدينة على مدى فترات مختلفة، بداية من تأسيس تلك الجمعيات العام 1990 ثم توزيع الأراضي على الموظفين بمرافق الدولة المختلفة وانتهاءً إلى تجريفها بعد جرف الأراضي في عدن عقب حرب صيف العام 94م.
اللجنة التعاونية للجمعيات السكنية بعدن كشفت على لسان رئيسها، أحمد سلامة مبروك، أنه من عام 1990 حتى 2020 لايزال هناك “من يعيقون” إعطاء أعضاء الجمعيات السكنية لمرافق ومؤسسات الدولة بالجنوب مستحقاتهم القانونية والمتمثلة بعقود الأراضي الممنوحة لهم.
وتحدث رئيس اللجنة عن “تلاعب كبير بأراضي وعقود الجمعيات السكنية”، محذراً بأن القانون سيطال المتلاعبين.. مشيراً إلى من وصفهم بالفاسدين في هيئة أراضي وعقارات الدولة، مهدداً بتقديم مستندات ووثائق وأدلة قانونية للنائب العام.
في المقابل رفعت الهيئة العامة لأراضي وعقارات الدولة بعدن بلاغاً ضد رئيس اللجنة التعاونية أحمد سلامة مبروك، لارتكابه “سلسلة مخالفات وتجاوزات لتسهيل الاستيلاء على أراضي الدولة”.
وبحسب المواقع الإعلامية والصحف التي نشرت الخبر، فقد أرفقت هيئة الأراضي بلاغها بالمستندات والوثائق والمخططات. وأكدت “تجاوزات قامت بها اللجنة، مطالبة بالتحقيق مع المذكور ومن معه وإحالتهم إلى محكمة الأموال العامة”.

القضاء.. مرة أخرى
للقضاء هنا قصة عجيبة، فالسلطة القضائية، كغيرها من مرافق الدولة، كان لها جمعيتها السكنية، التي تسعى إلى توفير أراض سكنية لموظفي السلك القضائي.
وكانت الجمعية السكنية لمنتسبي السلطة القضائية وموظفي السلك القضائي قد دشنت نشاطها في شهر فبراير من العام الجاري. وحضر التدشين جمع كبير من القضاة والموظفين بالسلك القضائي وقيادات أمنية وعسكرية.
وقبل شهرين تقريباً، قامت تلك الجمعية السكنية بتوزيع عقود الأراضي، وبدأت بأسر المتوفين والشهداء من أعضاء السلك.
وجرى تسليم عقود الأراضي في موقع المخطط السكني للجمعية بمديرية البريقة، بحضور عدد من القضاة وأعضاء النيابة وموظفي المحاكم وقيادات أمنية.
ويومها أكد مسئولون بالجمعية في تصريحات لعدد من وسائل الإعلام التي قامت بتغطية فعالية التدشين، أنه “جرى تسليم عقود الأراضي لأسر بعض المتوفين والشهداء من منتسبي السلطة القضائية”.
إلى هنا يبدو الأمر طبيعياً واعتيادياً ولا تشوبه أي شائبة. موظفون في مرفق من مرافق الدولة يصلون أخيراً إلى حلمهم بامتلاك قطعة أرض في مدينتهم، كأقل استحقاق يمكن لموظف أن يناله، بعد أن أفنى ربيع عمره في خدمة الوطن والمواطنين، خاصة إذا علمنا أن موظفي الدولة في البلاد عموما هم ممن لا يمتلكون غير مداخيلهم الشهرية من مرتبات هي في الحقيقة لا تكاد تغطي نفقاتهم الأساسية ولا تؤمن للغالبية منهم الحد الأدنى من متطلبات العيش، ناهيك عن القدرة على شراء أرضية أو بناء مسكن خاص، فهذه الأخيرة تعد بالنسبة لشريحة الموظفين- في عدن تحديدا- حلماً بعيد المنال، وغاية دونها “خرط القتاد”، كما يقال.
لكنها “أحلام صغيرة لموظفين بسطاء في مدينة من رماد”!. هكذا قال أحد أصحاب تلك الأحلام الصغيرة، موظف في إحدى محاكم عدن، وعضو في الجمعية السكنية، كان يحلم كغيره من البسطاء، قبل أن يستفيق ليجد “أضغاث أحلام”!.
“الأرض التي حددت لتكون موقعاً للجمعية السكنية لموظفي السلك القضائي، وهي أرض امجعيشن بمديرية البريقة في محافظة عدن، ليست أرضاً بيضاء مملوكة للدولة، ذلك أن ملاك الأرض الحقيقيين هم مواطنون من السكان الأصليين بتلك المنطقة، ولديهم ما يثبت صحة تلك الملكية”.
هذا ما تحدث به الموظف، منتسب السلك القضائي، وهذا ما أكده بعد ذلك قضاة ومسئولون بالجمعية السكنية نفسها.

شرعنة النهب والعبث بالأراضي
أحد القضاة قال إن “محاكم محافظة عدن كانت قد أصدرت أحكاما سابقة تتعلق بأراض شاسعة في مناطق بالمحافظة، أغلبها في مديرية البريقة (غرباً). خلصت تلك الأحكام إلى تمكين عدد من المتنفذين والمسئولين والقادة (الكبار) من تلك الأراضي الشاسعة”.
تلك الأحكام، كما وصف القاضي “تعد فضيحة وجريمة كبرى بحق المدينة وأهلها”!. وكشف عن أن “القضاء الذي كان قد قضى في السابق بالحق لمن يملكون هذه الأراضي من الملاك الأصليين شرعاً وقانوناً، نجده قد عاد ليشرعن لأكبر عملية استيلاء من قبل أولئك (الكبار) على الأراضي ذاتها في تلك المناطق. وحتى بافتراض أن بعض تلك الأراضي كانت مساحات بيضاء تابعة للدولة تبقى الجريمة قائمة بنهب المال العام، من قبل من يفترض أنهم (رجال الدولة)، بشرعنة وتمكين من (أجهزة الدولة). والثابت قانوناً أن جرائم الفساد لا تسقط بالتقادم”.

عدن.. مدينة بلا مستقبل
الحقيقة المؤلمة، أن الجريمة المنظمة للاستيلاء على الأراضي، لا يمكن التوقف عند حدودها الجنائية، ذلك أن هذا الملف (نهب الأراضي بعدن) يخفي أبعاداً أخطر، غير مدركة حالياً، لكنها ستتكشف لاحقا، وستكون لها عواقب وخيمة على مستقبل هذه المدينة وأهلها.
إن تجريف الأراضي في عدن مرتبط بالضرورة بتغيير، وربما تزوير وتزييف، كل ما يتعلق بهذه الأرض، من تاريخ وجغرافيا و(إنسان). وبما أن عدن (المدينة والإنسان) تشهد حاليا أشرس هجمة في تاريخها لتفريغها من هويتها ومسخها تماماً، فإن جرف الأراضي يسير بالتوازي مع هذه الهجمة الخبيثة.
وعليه، فإن المدينة مقبلة على مرحلة من تغيير تركيبتها السكانية (الديموغرافية)، بمشروع (استيطان جديد)، ومع الإزاحة الحاصلة لكل ثقافتها وتراثها، وحرب انتزاعها من أصولها، ستجد نفسها أخيرا عاجزة عن مغادرة هذا الحاضر المزري نحو أي صيغة من صيغ المستقبل!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى