العثمانيون.. الأردغانيون

بمسوغات السياسة ومفاهيمها، يبدو التدخل العسكري التركي في سوريا، حاملاً جملة من الأسباب الموضوعية لإقدام الرئيس أردوغان، على اتخاذ خطوة على هذا النحو من التصعيد، للانسداد السياسي الذي تعانيه تركيا، بعد أن توالت الأزمات وأثرت بشكل مباشر في الوضع الاقتصادي، المتراجع بوتيرة مخيفة، دفع ثمنها أردوغان في الانتخابات، مما أسهم باتخاذه قرار الغزو العسكري للتراب العربي.

عام 2018 احتلت تركيا منطقة عفرين السورية، كانت نقطة اختبار لرد الفعل العربي، فالأتراك الذين ظلوا عقوداً طويلة في صراع حدودي مع الدولة السورية حول لواء اسكندرون، دخلوا عفرين ولم يجدوا غير بيانات استنكار في وسائل التواصل الاجتماعي، فكرَّست تركيا وجودها، وجلبت مندوباً ليحكم عفرين العربية تحت العلم التركي.

قبل الاحتلال التركي لمدينة عفرين، كان الجنود الأتراك وضعوا أقدامهم للمرة الأولى في الجزيرة العربية، بعد أن فتح النظام القطري أبوابه منتصف عام 2017 للجنود الأتراك، بعد مائة عام من طردهم، كانت اللحظة بالنسبة للرئيس أردوغان التي طالما انتظرها، بعيداً عن كل الاعتبارات السياسية، فالنزعة التي تدفع بتركيا الجديدة، مدفوعة بمواريث التاريخ العثماني، وإن توارت هذه النزعة بمفاعيل الحسابات الظرفية، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا.

المحافظة على صورة كمال أتاتورك، كمؤسس للدولة الحديثة، كانت الشعرة التي أمسك بها أردوغان، ليحافظ على القوميين الأتراك، لكن يبدو أن هذه الشعرة قُطعت أو تكاد، بعد أن تلقى ضربة موجعة، بخسارته الانتخابات البلدية في اسطنبول، ومنذ الانقلاب المزعوم في 2016 حدثت العديد من المتغيرات في الداخل التركي، سياسية واقتصادية، كلها صبت باتجاه واحد، بخنق النظام السياسي، الذي اندفع نحو الهروب من الاستحقاقات الداخلية، بإثارة جملة من الأزمات التي اتسمت بالخطابات الشعبوية.
دأبت الدولة العثمانية منذ بدايتها، على انتهاج سياسة المعارك والحروب، حتى في حال استقرارها وضعف الخطر المحدق بها، لأهداف توسعية واستعمارية، ومكاسب سياسية، فشهد القرن التاسع عشر – وحدَه – أربع حروب، واشتعال صراعات بين روسيا القيصرية وتركيا العثمانية الامبراطورية، وكان الطرفان يتبادلان النصر والهزيمة، بحسب نوعية التحالفات التي كان هذا الطرف أو ذلك يبرمها ويفعلها.

قد تكون الظروف اليوم مختلفة، للدخول في حروب عسكرية مباشرة، إلا أن افتعال المعارك والدخول في صراعات متعددة، مع أطراف مختلفة، بعضهم حلفاء اليوم أو الغد، لا يزال سمة التعامل التركي الأردوغاني، ويتجلى ذلك في علاقة تركيا بإسرائيل، فرغم الخطاب الانفعالي وبعض التوترات في العلاقة، فإن الحقائق على الأرض تظهر عكس ذلك، فدائماً ما كان أردوغان الحليف الأقوى سياسيا، واقتصاديا، وعسكريا، لإسرائيل في المنطقة.

بعث أردوغان العثمانية من قبرها، بإحياء الروح التوسعية التي كانت في زمن الامبراطورية المترامية أطرافها، وعبر افتعال الأزمات، كانت مبررات أردوغان لتمرير مشروعاته الجامحة، وكان عام 2011 فرصة مواتية، لتقديم نفسه خليفة للمسلمين ووريث السلاطين العثمانيين، ولم يأت هذا من فراغ، بل عبر سنوات طويلة ،كان فيها حاضناً لجماعة الإخوان المسلمين، في ما يمكن أن يكون فِعلاً تبادلياً، فبينما يوفر الرئيس التركي لأفراد الجماعة المنصات السياسية والإعلامية وكذلك الاقتصادية، كانت الجماعة في المقابل توفر الخطاب لمرور أردوغان ومعه تركيا لمشروعها العثماني.

الفوضى التي ضربت سوريا والعراق، استفاد منها أردوغان  على غرار ما قام به السلطان “أورخان الأول” بتأسيس “الانكشاريين” التي تعني “الجيش الجديد”، هذه القوات الموالية بما فيها جبهة النصرة المتطرفة، تظل أدوات ذات شوكة قوية، استُخدمت بعنف في أزمة اللاجئين التي كانت ورقة الابتزاز للاتحاد الأوروبي، كما أنها وفرت الغطاء للجيش التركي للتوغل في الأراضي العربية العراقية والسورية، على امتداد ضعف الدولتين المركزيتين في بغداد ودمشق.

تتصاعد السياسات العدائية التي يتبناها أردوغان، في مواجهة الدول العربية، نتيجة هيمنة “التعصب العثماني” على نسقه العقائدي ورؤيته للعالم، وهو ما يدفعه لمحاولة الهيمنة على الشرق الأوسط، والسعي لإعادة إحياء “الامبراطورية العثمانية”، والتدخل العنيف في الشئون الداخلية لدول الجوار، وإحكام الاستبداد السياسي داخلياً، ودعم التيارات الدينية المتطرفة على امتداد الإقليم، هذه الدوافع ستزيد الهوة مع الحقبة الأتاتوركية، غير أن التحشيد التعبوي حول قضم الأراضي العربية، تحت ذريعة الصراع القومي التركي الكردي، (قد) يوفر فرصة لتمرير هذه السياسات.

الهروب من الاستحقاقات الاقتصادية، إلى إثارة الأزمات الخارجية، كما حدث في قضية مقتل الصحفي السعودي خاشقجي، التي كانت فرصة مواتية للهروب من أزمة تراجع العملة المحلية، نتيجة خلل السياسات الاقتصادية والركود العالمي، فعمل أردوغان على التصعيد الإعلامي، للتهرب من أزمته، غير أنها ومجموعة أزمات أخرى، أضعفت أردوغان في الانتخابات البلدية، ووجهت له ضربة مؤلمة، بما يمكن أن يوصف بأن التيار الأتاتوركي يقف خلفها.

من العثمانية إلى الأردوغانية، تقاطعات ومشتركات، لكنها تظل محاولات متفاعلة، رغم أنها أسهمت في إغراق عدد من البلدان العربية في الفوضى والاحتراب، لكنها في المقابل لم تنجح في تمكين الإخوان من السلطة، ورغم الصعود للسلطة في مصر وتونس والسودان، فإنه أفشل بإرادة شعبية، لكنهم مازالوا يراهنون كجماعة على حصة في اليمن وليبيا، وتظل الرغبة الأردوغانية جامحة في ظل الاختناق السياسي الداخلي، ومهما كان الجموح الأردوغاني، فإنه سيظل عالقاً عند حقبة أتاتورك، التي ستظل قوة المقاومة الرئيسية، التي ستعيد تركيا إلى حجمها، وستطفئ جمرة أردوغان مهما كان اشتعالها، فمصيرها أن تنتهي لرماد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى