استراتيجيات جديدة لوأد القضية الجنوبية

كتب: علاء محسن

يعتبر الاعلام جزءا رئيسيا من أي معركة تخوضها الدول والجماعات كانت دكتاتورية او ديمقراطية، فمن غير الاعلام يصعب الترويج لأي مشروع حرية او طغيان، ويستحيل تسويق أي سلم او عدوان. وحين تدق طبول الحروب، فيوازي التعبئة العسكرية حشد اعلامي يهدف الى شيطنة الخصم ودحض مبرراته وتضخيم تجاوزاته ويصل في بعض الاحيان الى نزع انسانيته ايضا.

هذا هو النموذج السائد في حالة الصراعات التقليدية ووجود خصمين معروفين في النزاع، لكن في الحالة اليمنية عموما والجنوبية خصوصا، فان خارطة الصراع شديدة التعقيد، فالشرعية والجنوبيون هم شركاء في الحرب ضد الحوثي، لكنهما في افتراق شديد في المشروع السياسي الذي يحمله كل طرف منهما. ومع  فقدان عنصر الأفضلية العسكرية لانصار الوحدة جنوبا فقد احدث هذا التغير تحولا من استخدام أدوات خشنة الى أدوات اكثر نعومة في المواجهة، فبعد أن يئست القوى الوحدوية من الحفاظ على مشروعها بأدوات العنف السابقة، فإنها لم ولن تكف عن التحريش بين المكونات الجنوبية ومحاولة التأثير في الرأي العام الجنوبي والتشكيك في مشروعه الخاص. وبما أن محاربة المشروع الجنوبي المستقل بشكل مباشر سيضع أصحاب هذه الأقلام “الجنوبية” في مواجهة مباشرة مع الأغلبية الجنوبية التي ترى في استعادة الدولة خطوة أولى لتحقيق التغيير المرجو، فيلجئ هذا الصحفي الى توظيف استراتيجيات غير مباشرة في إيصال رسائل موكليه كونها اشد في التأثير وامكر في التعبير.

تشكل الأسئلة الموجهة “leading questions” أهم هذه الاستراتيجيات، والتي تهدف الى ارباك المستمتع وحشره في زاوية ضيقة من التفكير وخيرات محدودة من الأجوبة. و في حين ان هذه الأسئلة تبدو بريئة – على المستوى الظاهر- في بحثها عن أجوبة لما يطرحه المستفهم، لكنها في الأصل تمنعك عن التفكير في فرضيات السؤال ذاته، والتي تحتوي عادة على الكثير من المغالطات التي تنافي الواقع الموضوعي. في سياقنا المحلي، تهدف هذه الأسئلة الى خلق يأس واحباط لدى العامة بان المراهنة على المشروع الجنوبي هو رهان خاسر باستخدام ادلة مقتطعة وجزئية، وبالتالي فإن الأسئلة الموجهة ما هي الا نوعا جديدا من البروبجاندا السياسية واكثر خطورة من الطرق التقليدية السابقة لسببين، اولهما ان هذه الاسئلة غير واضحة العيان في جوهرها التحريضي وبالتالي يمكن قولبتها وتقبلها بأنها “أسئلة من غيور على وطنه”، والاخر بسبب توجيه هذه الأسئلة من أقلام داخلية جنوبية والتي قد يكون لها تاريخ في مناصرة القضية الجنوبية سابقا، مما يضيف الى شرعية هذا الشخص والاسئلة التي يطرحها. سيكون من الصعب ابتلاع هذا الطعم اذا لم يكن “الصياد” جنوبيا او ممن عرف بانتمائه لأحزاب يمنية ذات مواقف متطرفة في محاربة المشروع الجنوبي. لتقريب الصورة اكثر، لنكن على يقين انه اذا سأل سائل “لماذا تراجعت الناس في الجنوب عن مطالبتها في استعادة دولة الجنوب” فهو لا يبحث عن الأسباب الحقيقية وراء انحسار الحماس الشعبي اذا ما قورن بفترة الحرب  في عدن وما بعدها مباشرة والذي له علاقة بالوضع الاقتصادي والمعيشي القائم، لكنه يريد إيصال رسالة تعميم ان الناس في الجنوب قد كفرت بمشروع الدولة المستقلة. على نفس المنوال، لا يبحث سؤال “لماذا يقف التحالف ضد إرادة الجنوبيين؟” في ظاهرة موضوعية بقدر ما هو موجه لإعطاء انطباع ان التحالف العربي هو عدو الشعب الجنوبي والذي يهدف الى زعزعة الثقة بين الطرفين. الأمثلة كثيرة لهذه النوعية من الأسئلة والتي تعطي رسالة واضحة مفادها ان الجنوبيون ليسوا اهل للدولة وان المنادين بهذه المشاريع ليسوا الا أصحاب شعارات.

إن المـتابع الحاذق هو من يقدر على تفكيك هذه الأسئلة الى فرضياتها الأساسية، والذي بدوره يمكننا من الكشف على المغالطات المنطقية التي تحويها هذه الأسئلة. عملية التفكيك نفسها ليست بالسهلة؛ كونها تتطلب قدرا كبيرا من المهارات المنطقية والنقدية بالإضافة الى المتابعة الحيادية للأحداث. يمكن تلخيص الفرضيات التي تبنى عليها هذه الأسئلة الموجهة الى اربع نقاط رئيسية  كالاتي.

  1. أن أنصار المشروع الجنوبي المستقل هم السلطة الحاكمة في الجنوب كما هو الحوثي سلطة الامر الواقع في الشمال. هذه هي الفرضية الأساس التي ينبني عليها كثير من الاستنتاجات، لكنها لا تعدو عن كونها مغالطة كبيرة فعلى رغم تغير الواقع العسكري جنوبا، الا ان شؤون الحكم والإدارة لازلت بيد الحكومة الشرعية وهي من تتحكم ليس فقط بمداخيل الدولة ومخارجها وانما لا زالت تهمين على حصة الاسد من المساعدات الدولية عبر قنواتها الرسمية. أيضا ان عملية تمكين الجنوبيين في السلطة لا تعكس بالضرورة تمثيلية هؤلاء للمشروع الجنوبي المستقل. على العكس تماما، تجاهد الشرعية في استقطاب شخصيات جنوبية معادية لهذا المشروع.
  2. أن المجلس الانتقالي لم يؤسس الا حينما اقيل واخرجت قياداته من السلطة. هذا أيضا غير صحيح فكلنا نتذكر كلمة اللواء الزبيدي في أكتوبر 2016 (أي قبل تشكل المجلس بأكثر من نصف عام)، والذي حث فيه على ضرورة كيان جنوبي شامل وقيادة سياسية موحدة لتمثل الجنوب وقضيته العادلة، وبهذا اتى المجلس الانتقالي كمحاولة لتحقيق هذه الهدف بغض النظر عن القيود التي فرضتها دول التحالف على المجلس او اداء المجلس نفسه مقارنة بالأهداف المرسومة شعبيا وتنظيما.
  3. أن العائق الوحيد امام التنمية والخدمات جنوبا هي الحركات الانفصالية ممثلة في المجلس الانتقالي وادواتها العسكرية والأمنية كونها لا تخضع للشرعية. هذا ليس صحيحا تماما فقد كانت قيادات المجلس على رأس السلطة المحلية ومع هذا تعثرت الخدمات وتدهور الاقتصاد ولم يعرف إعادة الاعمار طريقه الى المحافظات المحررة الا ما ندر.
  4. ربط الأخطاء والجرائم والاختلالات بالمشروع الجنوبي المستقل صغرت او كبرت. وهذه أيضا من اكبر المغالطات كون هناك فصل كبير بين الاثنين. ان السلطة الحاكمة اليوم في الجنوب هم متعددة الأطراف ولهذا من المجحف توظيف الاحداث سياسيا للتأكيد على الحكم “المارق” الذي سيعاني منه الجنوب حال الانفصال. هذا لا يعني براءة اطراف متعددة في الفساد الحاصل في الجنوب، لكن فقدان نظام المحاسبة وعدم تفعيل القضاء والانشغال بالخصوم السياسية اكثر من محاربة الفساد والحكم الرشيد والنهوض بالخدمات هو من ساهم في خلق هذا الوضع الهش.

في الختام، ما أود التأكيد عليه في هذا المقال هو ضرورة التسلح بوعي عام يمكننا من التمييز بين الاعلام الهادف الى تقويم الطريق وبين الاعلام الموجه للنيل من قضية معينة. لاشك ان الواقع الجنوبي اليوم ليس كما يريده كل غيور أن يكون، فلا يعقل ان نكون مناطق محررة ونعاني أكثر من المناطق المخنوقة ماليا التي يسيطر عليها الحوثي بسطوة السلاح. ان ضرورة اصلاح الأوضاع وتطبيعها جنوبا يتطلب تشخيصا مناسبا للمشكلة الموجودة والعمل على خلق اليات عمل مشتركة بين الشرعية والقوى الجنوبية بحيث تنعكس إيجابيا على المواطن البسيط. قد يصعب التوفيق بين وجهات النظر الشرعية والجنوبية بنسبة 100%، لكن هذا لا يعني ان الاستمرار على هذا النهج هو القدر المحتوم فالمعركة ليست صفرية كما تبدو للفعالين السياسيين هناك. ومع رفضنا لأي محاولات لوأد القضية الجنوبية واختزال تمثيلها في اطراف مقربة من الشرعية واستهداف كيانات لها ثقلها على الأرض، الا أن هذا لا يعفي المجلس الانتقالي من القيام بمسؤوليته التي خوله الشعب بها من تحسين الأمن ومكافحة الفساد والتحسين من معيشة المواطن بشكل عام. واذا تخيلنا أن الحقوق ستأتي وان الأوضاع ستصلح- في يوم من الأيام-  فقط لأن السلطة او اطراف خارجية وعدت بذلك فنحن واهمون.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى