وفاة الرئيس الجزائري السابق عبدالعزيز بوتفليقة


رحل رئيس الجزائر السابق عبد العزيز بوتفليقة، فجر السبت، عن عمر يناهز الـ84 عاما. ورحلت معه الكثير من الأسرار عن واحدة من أطول مراحل عمر البلاد.

لم يغادر بوتفليقة هذه المرة السلطة وهو 7 رئيس للجزائر، بل غادر الحياة بما له وما عليه، وكأن قدره اختار له أن يرحل في توقيت متأخر من الليل دون ضجيج إعلامي كالذي أحدثه خبر استقالته قبل عامين.

لازم كرسياً متحركاً وهو في آخر أعوام حكمه، ثم لازم فراش المرض بعد انسحابه منها، بعد أكثر من 60 عاماً قضاها في خدمة بلاده بين الثورة التحريرية (1954 – 1962) وأعوام الاستقلال (1962 – 1962).

وشاءت الصدف، أن يلقبه جزائريون بـ”الرئيس الذي قلب قدَر البلاد مرتين”، عندما حكمها في أخطر مرحلة أمنية وأعادها إلى بر الأمان، قبل أن يُدخلها مرضه ثم تشبثه بالحكم في قدر جديد لازالت تبحث عن مخرج له.

وتوفي، مساء الجمعة، الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة بعد رحلة طويلة مع المرض دامت 8 سنوات.

وتدهورت صحة بوتفليقة خلال قيادته للبلاد وظهر مقعدا على كرسي متحرك منذ 2013 بعد أن أصيب بارتفاع حاد في ضغط الدم، تسبب في شلله، بحسب ما أكدته الرئاسة الجزائرية آنذاك.

واستقال الرئيس السابق للجزائر في 2 أبريل/نيسان بعد 20 عاما قضاها في حكم البلاد على وقع أضخم احتجاجات شعبية طالبته بالرحيل مع أركان نظامه.

ومنذ ذلك الحين، غاب بوتفليقة عن المشهد السياسي، ولم تنقل وسائل الإعلام الجزائرية أي أخبار عنه، فيما رافقته شائعات وفاته منذ 2015 حتى عقب انسحابه من السلطة.

داهية الرؤساء
يقول كل عنه من عرفوه عن قرب، بأنه “داهية ساسة الجزائر ورؤسائها”، حكم الجزائر في أحلك ظروفها الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لكن “بشروطه هو”، حينما رفض أن يكون “ربع رئيس” أو “رئيس بربع صلاحيات” كما كان يطلق آنذاك.
قال بوتفليقة غداة فوزه بأول ولاية لحكم الجزائر في أبريل/نيسان 1999، عندما وجه رسالة لمن قال “إنهم يحكمون الجزائر”، مفادها أنه “لن يكون رهينتهم” أو هكذا فسرتها معظم الأوساط السياسية والإعلامية في ذلك الوقت.

واستطاع بوتفليقة أن يلعب على جميع أحبال من كانوا وراء كواليس السلطة – على تعبير وسائل إعلام جزائرية -، كما كان له الفضل في ميثاق السلم والمصالحة الوطنية عام 2005 الذي شكل بداية نهاية ما كان يعرف بـ”العشرية السوداء” وهي فترة تسعينيات القرن الماضي التي عرفت تغول الجماعات الإرهابية.

وباعترافات وشهادات خصومه، تمكن الرئيس الجزائري السابق من إزاحة من كانوا يوصفون بـ”عُصب السلطة” أو “أجنحتها القديمة” قبل أن تطفو على السطح أنباء عن وجود صراعات داخل هرم السلطة، قبل أن يحسم الجيش بعد استقالة بوتفليقة عدم وجود صراع السلطة، بل “عصابات” استغلت مرض بوتفليقة.

بدأ بوتفليقة مشواره السياسي “أصغر وزير في العالم” عقب استقلال الجزائر وفي عهد الرئيس الراحل أحمد بن بلة عندما تولى حقيبة الشباب والرياضة، ثم “أصغر وزير خارجية في العالم” في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، إلى أن بات “أطول رؤساء الجزائر حكماً”.

وفي 02 أبريل/نيسان استقال عبد العزيز بوتفليقة في الشهر نفسه من 1999 من أبريل/نيسان وبات معها “الرئيس السابق”، واستحق خلالها لقب “الرئيس المثير للجدل”.

من هو بوتفليقة؟
الاسم الحقيقي للرئيس الجزائري هو “عبد العزيز بلزعر”، بحسب ما كشفت عنه مؤخرا مصادر أمنية في محافظة تلمسان، كان والده مشرفاً على مسجد، تنحدر أصوله من محافظة تلمسان، والتي غادرها برفقة زوجته في عهد الاستعمار الفرنسي إلى مدينة وجدة المغربية، وهناك ولد عبد العزيز بوتفليقة مع بقية أشقائه”.

ولد بوتفليقة في 02 مارس/آذار 1937 بمدينة وجدة المغربية، والتحق بصفوف جيش التحرير الوطني الذي ناضل من أجل استقلال الجزائر، وبعد استقلال الجزائر عام 1962 عينه الرئيس الأسبق أحمد بن بلة وزيرا للشباب والرياضة وعمره 25 عاماً.

وفي عهد الرئيس الأسبق هوراي بومدين، تولى بوتفليقة حقيبة الخارجية عام 1965 وبقي في منصبه إلى غاية 1979، وكان من بين المقربين من الرئيس الراحل بومدين.

استعادة الأمن في البلاد
بعد وفاة الرئيس هواري بومدين، غادر بوتفليقة الجزائر على وقع دعوة “مجلس المحاسبة لمحاسبته بتهمة قضايا فساد”، لتتم تبرئته في نهاية الثمانينيات، حيث عاد إلى الجزائر بالتزامن مع أحداث 5 أكتوبر/تشرين الأول 1988، حيث شارك مع قياديين في حزب جبهة التحرير الحاكم في صياغة مطالب للرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد تتعلق بفتح المشهد السياسي أمام التعددية السياسية والإعلامية.

عام 1994 رفض بوتفليقة تولي رئاسة الدولة بعد حل المجلس الأعلى للدولة، واشترط “حقيبة الدفاع وصلاحيات أوسع”، لكن مطالبه اصطدمت برفض قيادة الجيش أنداك.

بعد إعلان الرئيس الجزائري السابق اليامين زروال عام 1998 تقليص ولايته الرئاسية وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، بات عبد العزيز بوتفليقة “مرشح إجماع المؤسسة العسكرية” بعد أن وافقت على كل شروطه.

فاز بوتفليقة بالرئاسة في أبريل/نيسان 1999 وتسلم السلطة من زروال، وتعهد خلالها باستعادة الأمن وتحسين الاقتصاد واستعادة مكانة الجزائر الدولية، عقب انسحاب المرشحين الستة الذين اتهموا الجيش “بحسم الانتخابات لصالح مرشح الاجماع”.

وصل بوتفليقة إلى الحكم وكانت البلاد لازالت على وقع مجازر الجماعات الإرهابية، ليباشر خلالها برنامجه لاستعادة الأمن وإخراج الجزائر من العشرية السوداء التي عرفت مقتل أكثر من 250 ألف جزائري وخسائر مادية تفوق 40 مليار دولار.

عرض بوتفليقة استفتاء على الجزائريين لقانوني “الوئام المدني” و”المصالحة الوطنية” وصوت الجزائريون بكثافة عليهما، وهما القانونين الذين أقر عفواً عن “المسلحين الذين لم يرتبكوا جرائم قتل أو اغتصاب وقبلوا بتسليم أسلحتهم”، مع منعهم من ممارسة النشاط المسلح.

أعيد انتخاب بوتفليقة مرات متتالية، وكان ذلك في 2004 و2009 و2014، بعد أن غير الدستور في 2008 الذي كان يحدد الولايات الرئاسية باثنتين فقط.

احتواء الخصوم
يقول المراقبون إن “بوتفليقة جاء واجهة للنظام وبات النظام في حد ذاته أو على الأقل ركيزة قوية فيه”، متبعاً في ذلك “سياسة احتواء الخصوم” في سياسته الداخلية والخارجية.

رفض بوتفليقة أن “يكون ثلاثة أرباع الرئيس” كما صرح بذلك، وتمكن من الاستحواذ على “97 صلاحية” للرئيس من خلال التعديلات الدستورية التي أجراها، تمكن خلالها من “التخلص من خصومه في الجيش”.

عند توليه الحكم، عين بوتفليقة “عدوه الأول” وهو رئيس جهاز المخابرات الأسبق الجنرال “العربي بلخير” في منصب مدير ديوان رئاسة الجمهورية، وبات “يده اليمنى” في إبعاد خصومه العسكريين، خاصة قائد الأركان الأسبق الجنرال “محمد العماري” والرجل الثاني في المخابرات “اسماعيل العماري” اللذين كانا ضد ترشحه لولاية ثانية عام 2004.

بدء عزل بوتفليقة لجنرالات الجيش السابقين “الواحد تلو الآخر” كما ذكر متابعون، وواصل ذلك إلى أن أقال من يسمى بـ “صانع رؤساء الجزائر” وهو رئيس جهاز المخابرات السابق محمد مدين والذي أقاله عام 2015، ثم عين العربي بلخير سفيراً للجزائر في المغرب وبقي هناك إلى أن توفي عام 2010.

وذكر سياسيون جزائريون في تصريحات لوسائل إعلام محلية، أن بوتفليقة استعمل سياسة “القبضة الحديدية” مع كبار قادة الجيش آنذاك ملوحاً “بملفات الجرائم المرتكبة فترة التسعينيات”، وتمكن خلالها من تمرير تعديل دستوري عام 2008 يسمح له بفتح العهدات الرئاسية الذي كان تعارضه بعض شخصيات الجيش الجزائري.

باتت الساحة فارغة بعد ذلك أمام بوتفليقة، خاصة بعد أن انهى “قبضة من يعرفون بضباط فرنسا”، وفي خضم أحداث الربيع العربي، أعلن بوتفليقة عن اصلاحات سياسية عام 2001، فيما وصفته المعارضة بـ “شراء السلم الاجتماعي”، مستفيدا من ارتفاع أسعار النفط في الاسواق العالمية.
مرض بوتفليقة
عام 2013، تعرض بوتفليقة لجلطة دماغية، تنقل خلالها إلى مستشفى “فال دو جراس” في فرنسا، ومنذ ذلك الوقت بات ظهوره نادراً، ويقتصر على استقبال قادة الدول أو رئاسة مجلس الوزراء على كرسي متحرك.

خلال هذه الفترة، تفجرت في الجزائر ما يعرف بـ “قضايا الفساد”، ونشرت وسائل إعلام جزائرية ملفات سميت بـ”فضائح القرن” كان المتهمون فيها مقربون من الرئاسة الجزائرية، من بينها “فضيحة سوناطراك، الطريق السيار شرق غرب، وغربها”.

ورغم ذلك ترشح بوتفليقة عام 2014 لولاية رابعة وهو على كرسي متحرك، وواصل المقربون إدارة مؤسسات الدولة وتعيين الحكومة وكبار الشخصيات.

تسبب ترشيحه لولاية خامسة في خروج آلاف الجزائريين رافضين لها، وبعد عدوله عن الترشح، اتسعت رقعة الحراك الشعبي الرافضة لتمديد ولايته ومطالبة برحيله ونظامه.

لم يسبق وأن خرج الجزائريون مطالبين “باستقالة رئيس أو رحيل نظام”، حدث ذلك فقط في عهد بوتفليقة الذي يقول الجزائريون إن حكم البلاد في السنوات الأخيرة “بالوكالة” من مقربيه خاصة شقيقة سعيد بوتفليقة.

ورغم ذلك، يقول الجزائريون “إنهم لا يكرهون بوتفليقة ويحترمون كل ما قدمه للجزائر خاصة استعادة الأمن الذي فقدوه لأكثر من 10 سنوات”، لكنهم يقولون “إنهم يرفضون استمرار رئيس مريض يحكم بلداً بحجم الجزائر بشكل أهان سمعة الدولة التي كان بوتفليقة من بين أكثر رؤساء الجزائر حرصاً على المحافظة عليها”.

دخل بوتفليقة إلى الحكم من أوسع أبوابه “مرشح إجماع” وخرج “من أضيق أبوابه كما يرى المراقبون “وبإجماع الشعب والجيش”، غير أن المتابعين لحقيقة الوضع في الجزائر يقولون “إن شقيقه هو سبب خروجه بهذا الشكل”.

ويعرف عن بوتفليقة بحسب مقربين منه، أنه “كان يحلم بتدشين المسجد الأعظم الذي أنجز في عهدته والذي يعد ثالث أكبر مسجد في العالم، وأن تقام له جنازة رسمية وشعبية لا تقل عن جنازة ملهمه ورفيق دربه الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين”.

لكن الرئيس الجزائري المستقيل خرج “بمظاهرات شعبية لم تشهدها الجزائر في تاريخها، ومطالبة برئيس جديد يحترم مطالب الشعب، ويقود الجزائر نحو التطور الاقتصادي”.

الرئيس الذي كشف حقيقة الإخوان
ومن بين ما يحسب لبوتفليقة بحسب كثير من المراقبين، “هو كشفه حقيقة المعارضة الجزائرية خاصة الإخوان منهم”، وإن قوبل بانتقادات على ما أسموه بـ “غلق اللعبة السياسية لصالح الأحزاب الموالية له”.

خلال فترة حكمه، تمكن بوتفليقة من إسقاط قناع المعارضة للإخوان، بعد “أن استدرجهم” في بداية حكمه إلى الحكومة وإلى تحالف رئاسي كانوا جزء منه من خلال حركة مجتمع السلم الإخوانية مع جبهة التحرير والتجمع الوطني الديمقراطي.

نجح بوتفليقة أيضا في كسب “أشرس معارضيه” عام 1999، أبرزهم وزيرة الثقافة السابقة خليدة تومي، ووزير التجارة الأسبق عمارة بن يونس، ووزير الأشغال العمومية الأسبق عمار غول وسعيد سعدي الرئيس السابق لحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، وباتو من أكبر المؤدين له.

باتت غالبية المعارضة الجزائرية خاصة في الولايات الثلاث من حكمه مساندة لبوتفليقة سواء بمواقفها أو بالمناصب التي منحها لها في الحكومة أو بقية مؤسسات الدولة.

ويقول المراقبون، إن سياسة بوتفليقة رغم أنها صدمت الجزائريين، إلا أنها كشفت عن زيف غالبية المعارضة ونفاق الإخوان “المعارضين نهاراً والموالين ليلا”، وبقيت حركة مجتمع السلم الإخوانية تحاول “تمديد ولاية بوتفليقة” بعد آخر مبادرة لها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى