عشرية اليمن.. مقامرون في الجحيم

كتب ـ هاني مسهور

بنهاية العقد في 2019 يبدو المشهد اليمني أكثر من مجرد مأساة سياسية يمكن التنبؤ بمعالجتها في السنوات الخمسة المقبلة، فاليمن بات واقعاً تحت مؤثرات متداخلة بين صراعات إثنية داخلية ضيقة، وبين صراعات واسعة تتجاوز حدوده الإقليمية، إلى ما هو أبعد من ذلك، نظير موقعه الجغرافي كعامل من عوامل استشراف مستقبل الصراع على اليمن، وإن كان رماداً فوق رماد.

لم تكن العشرية اليمنية مفاجئة لمن يقرأ التاريخ السياسي لهذا البلد المُعقدة تركيبته الاجتماعية، نتيجة تعقيدات تاريخية مهدت لهذه السنوات العشر من الاحتراب متعدد الأقطاب في صراعات، في واقعها تظل صراعات مستدامة، لا تمثل هذه العشرية سوى محطة من محطات الصراعات، وإنْ احتوت ما احتوت من التداخل الإقليمي، في تكرار مماثل لتداخل ليس بالجديد في التاريخ السياسي اليمني، الذي ظل واحداً من أهم مواقع الصراعات في الشرق الأوسط على الإطلاق.

اليمنيون يعرفون بدقة متناهية مسببات حروبهم، كما يعرفون تماماً توظيف تلك الحروب، ويدركون ما يتوافق، وما يمكن أن يحقق لهم من أرباح سياسية وأخرى نفعية، فالحرب اليمنية لها تقاليدها التي تحتفظ بموروثاتها، وإن تعاقبت العصور والأزمنة، فهي حروب لها تجارها وكذلك لها مسوقوها، وأيضاً لها زبائنها، فالبضاعة لم تكن يوماً كاسدة، بل بضاعة حاضرة في كل الأزمنة.

العشرية اليمنية الدامية انبعثت من تحت رماد نار لم تطفئ منذ الانقلاب في البيت «الزيدي» عام 1962، وإن كانت بوادر الصراع الذي أطلقه تنظيم «الإخوان» في اليمن بعد رحيل عبدالله بن حسين الأحمر، وتوظيف صراع نظام علي صالح ضد «الحوثيين» من جهة والحراك الجنوبي من جهة أخرى، للتسلل إلى السلطة، وهو ما يؤكده مسار الأحداث اليمنية، ففيما التقط «الإخوان» ما يسمى «الربيع العربي» في صراعهم ضد خصومهم السياسيين، استخدموا القمع السياسي ضد الحراك الجنوبي.

تبدلت التحالفات بين المتصارعين في شمال اليمن، ففي حين تحالف «الإخوان» مع «الحوثيين» لإسقاط نظام الرئيس علي عبدالله صالح تحت ذريعة ما يسمى «الربيع العربي»، كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية بعد سنوات طويلة أن اتفاقاً أبرم بين «الحرس الثوري» الإيراني والتنظيم الدولي لـ«الإخوان» برعاية تركية لتشكيل حزام مُهدد للسعودية، وإن كانت الوثائق المسربة تفسر الأحداث الدراماتيكية التي شهدها اليمن بعد توقيع المبادرة الخليجية، مروراً بمحاولة اغتيال الرئيس صالح في مسجد النهدين، وحتى الانقلاب «الحوثي» في سبتمبر 2014 واستلام المحافظات الشمالية دون مواجهات عسكرية، فإن هذا يؤكد أن اليمنيين يمتلكون من البراغماتية السياسية ما يصعب معه التنبؤ بمستقبلهم السياسي.

في تحالفات العقد اليمني (2010 – 2019) لعبت الأطراف بورقة الإرهاب كورقة رابحة من أوراق اللعب على طاولة القمار اليمنية، تنظيمات «القاعدة» و«داعش» تتعامل مع الأطراف السياسية كقاتل مأجور، فبمجرد أن بدأت الاحتجاجات في صنعاء ومن دون مقدمات، أعلنت «القاعدة» قيام إمارتها في محافظة أبين عام 2011، وفي غمرة التظاهرات تفجر «داعش» عرضاً عسكرياً في صنعاء، وتعود «داعش» لتقتل مدنيين في مستشفى العرضي، ثم يكتمل المشهد بسقوط المكلا حاضرة حضرموت، بعد انطلاق «عاصفة الحزم» بأسبوع واحد بيد عناصر أنصار الشريعة.

الأكثر حدة في تحالف الإرهاب مع الأحزاب اليمنية، كان بعد تحرير العاصمة الجنوبية عدن في يوليو 2015 عندما تسللت عناصر «داعش» إلى مديرية المنصورة وأعلنتها ولاية إسلامية، كانت الأحداث برغم الدموية السائدة إلا أنها تؤكد مسألة أساسية، أن الثعابين تعرف كيف توظف المتناقضات لصالحها، حتى وإن كان التوظيف مع الشياطين، وهذا هو ما يبرر امتصاص تنظيم «الإخوان» فرع اليمن للمتغيرات في المنطقة واستيعابها، مع الإبقاء على تحالفاته السرية مع الخارج.

في اندفاع (عاطفي) كشف تنظيم «الإخوان» في اليمن حقيقته، عندما أسقط المصريون حكم «الإخوان» في 2013 هناك أظهر «إخوان» اليمن عدائية تجاه السعودية والإمارات كداعمين لثورة الشعب المصري، وكدول رافضة لمشاريع الإسلام السياسي، ذلك الاندفاع العدائي عاد للتموضع بعد قيادة السعوديين لعملية «عاصفة الحزم» في 2015 ليمتص «الإخوان» الصدمة، وبعد أن قاموا بتسليم الساحل الحضرمي لتنظيم «القاعدة» أعلنوا تأييدهم للسعودية، ولكنهم في المقابل عملوا على تقوية معسكراتهم، بل إنهم باتوا فعلياً يفرضون نفوذهم على مساحة جغرافية واسعة فيما يجب أن تكون محافظات محررة.

تنعكس كافة التطورات الإقليمية على التحالفات اليمنية، وبما تمتلكه القوى السياسية من براغماتية، فهي تجيد التعامل مع هذه التطورات مهما كانت حدتها، ففي نطاق هذه السنوات عندما تم الضغط على القوى الداعمة لجماعة «الإخوان»، أطلقت كوادر تنظيم «الإخوان» في اليمن حملات ممنهجة ضد الدول الضاغطة على التنظيم، بل إنها شاركت في مؤتمرات مختلفة تضاد التوجه السعودي والإماراتي والمصري، ولعل التحشيد في قضية خاشقجي واحد من الأمثلة على تبادل الأدوار الذي يلعبه «الإخوان» مع الأحداث في المنطقة.

«الحوثيون» أيضاً، كما «الإخوان»، لديهم ذات البراغماتية، ففيما «تلتزم» مليشيات «الحوثي» ببراءة من يدعمهم عسكرياً ومادياً، فهم في المقابل يتحملون مسؤولية عمليات عدائية كبرى ضد السعودية، كما حدث في تبنيهم مسؤولية الهجمات على مجمع أرامكو وقبلها هجمات استهدفت خط النفط في «الدوادي» وعفيف، والاعتداءات على السفن التجارية في جنوب البحر الأحمر عام 2017، وإن كان ذلك إطاراً عاماً هادفاً سياسياً لتكريس القدرة العسكرية وإثباتها أمام المجتمع اليمني المحلي.

ولعل هذه هي نتيجة سنوات المقامرة في سنوات كدس فيها الخصوم من العتاد العسكري، ما يجعل المقامرين يتربصون توقيت الانقضاض على الفريسة الأقرب، بانتظار موازنات الخارج الذي عليه أن يمارس دور الرقيب على مقامرين لا يمتلكون سوى قدرة طول النفس لتدوير صراعاتهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى